في توقيت مواكب لقمة مجموعة السبع، تلك التي عقدت في مدينة هيروشيما باليابان الأسبوع الماضي، كانت الصين تعقد قمة أخرى موازية، تتصل ببلدان آسيا الوسطى، وذلك لتعزيز موقعها هناك، وهو ما يبدو أنها نجحت فيه بالفعل.
على مدار يومين متتاليين، جمع الرئيس الصيني شي جينبينغ رؤساء خمس دول، عرفت من قبل بأنها جمهوريات خاضعة للاتحاد السوفياتي، وهي طاجيكستان، أوزبكستان، تركمانستان، كازاخستان، قرغيزستان.
هل كانت القمة محاولة لطرد النفوذ الأميركي من وسط آسيا، أم أن الأمر يتجاوز ذلك، إلى حدود بلورة وجه آخر مغاير للنظام العالمي الجديد، تختصم فيه من سطوة الولايات المتحدة التقليدية حول العالم؟
في تقرير لها مواكب لقمة البلدان الخمس، بجانب قمة السبع العظام، قالت مجلة “نيوزويك” الأميركية: “إن الصين ربحت موطئ قدم جديد في آسيا الوسطى وأخرجت الولايات المتحدة الأميركية منها”.
ربما نبدأ البحث ومحاولة إيجاد الجواب من عند تلك الدول الخمس وأهميتها الاستراتيجية على الخريطة الدولية المعاصرة.
هل العالم بالفعل في سياق ولادة نظام أممي جديد، بدأت الصين تعلن فيه حضورها، وإن لجأت إلى مقدرات الردع النقدي، بأكثر صورة من اعتمادها على فكرة الردع النووي التي تتبعها الولايات المتحدة؟
تمتد منطقة آسيا الوسطى من بحر قزوين في الغرب إلى الصين ومنغوليا في الشرق، ومن أفغانستان وإيران في الجنوب إلى روسيا في الشمال.
تعرف هذه الدول بـ”الستانات” حيث تنتهي جميعها بلفظة “ستان” وهي كلمة فارسية تعني “أرض”.
تتميز هذه المنطقة بأهمية جيوستراتيجية كبيرة وذلك من خلال موقعها الجغرافي ومواردها المهمة، بحر قزوين الغني بالموارد من جهة، وتشكل من جهة أخرى عدة طرق برية وتمديدات أنابيب الغاز والنفط من الشرق الأوسط وقزوين باتجاه الصين أو منها باتجاه البحر الأسود وتركيا والبحر المتوسط، ومن الأخيرة باتجاه الخليج العربي عبر إيران، وأفغانستان وباكستان باتجاه المحيط الهندي، ويضاف إلى ذلك غناها بالنفط والماء والمعادن الثمينة.
هل باتت دول آسيا الوسطى ملعب صراع بين الولايات المتحدة الأميركية ومجموعة السبع من جهة، وبين الصين الصاعدة، والتي تختصم من رصيد روسيا الاتحادية ونفوذها السياسي اليوم، وربما العسكري غداً من ناحية ثانية؟
غالب الظن أن ذلك كذلك، فهذه الدول التي تشترك في عضوية منظمة شنغهاي، وكومنولث الدول المستقلة عن الاتحاد السوفياتي السابق، تبدو وكأنها في صراع بين أن تكون سيدة مستقبلها وتاريخها من جهة، والتدخلات الخارجية من جهة ثانية، وليس سراً أن هناك من يرى محاولات غربية حثيثة لدفعها في سياق ما عرف قبل عقد من الزمان باسم “الربيع العربي”…
صراع لنزع أنياب واشنطن آسيوياً
هل بات الصراع بين واشنطن وبكين في وسط آسيا واضحاً جداً، ويكاد يقترب من حالة الصدام الفعلي بين الجانبين؟
يمكن أن يكون ذلك كذلك بالفعل، والذين قدر لهم قراءة بيان وزارء خارجية مجموعة السبع، في أعمالهم التحضيرية لقمة هيروشيما، يقطعون بذلك.
يقول البيان: “إننا نؤكد عزمنا على دعم سيادة بلدان آسيا الوسطى واستقلالها وسلامتها الإقليمية، كما نلتزم بالعمل مع بلدان آسيا الوسطى للتصدي للتحديات الإقليمية، بما في ذلك عواقب الحرب العدوانية الروسية، والآثار المزعزعة للاستقرار في أفغانستان، وانعدام الأمن الغذائي وأمن الطاقة، والإرهاب، وعواقب التغير المناخي”.
تدرك الصين وبجلاء تام النوايا الأميركية، ولا تغيب عن ناظريها رغبتها في مد نفوذها بالقرب منها اليوم، ومحاصرتها في الغد تحت دعاوى الاستقلال والحرية والديمقراطية وحق تقرير المصير.
تدرك الصين وبجلاء تام النوايا الأميركية، ولا تغيب عن ناظريها رغبتها في مد نفوذها بالقرب منها اليوم، ومحاصرتها في الغد تحت دعاوى الاستقلال والحرية والديمقراطية وحق تقرير المصير.
تقدم واشنطن لدول وسط آسيا محفزات لمزيد من الشراكة، كتعزيز التواصل المستدام، والنقل، والروابط التجارية، وروابط الطاقة لتعزيز الرخاء الإقليمي.
كما لا تنفك واشنطن تعزف على أوتار التمكين الاقتصادي للمرأة، والمساواة الجندرية، والإصلاحات الداخلية والمؤسسية، والأمن الإقليمي.
تنظر الصين إلى منطقة وسط آسيا بوصفها جواراً استراتيجياً، لا يمكن السماح لواشنطن باختراقه بحال من الأحوال، وهي ترى في النموذج الأوكراني، وكيف بات شوكة في حلق روسيا، مهدداً لها في المستقبل، ويكفيها ما يجري على الأراضي التايوانية.
هل ركبت دول وسط آسيا “قطار التنمية الصيني السريع”، ولم تعد في حاجة إلى رهانات الغرب وبخاصة الولايات المتحدة، لا سيما في هذه الأوقات التي تعاني فيها اقتصادياً، وقضية سقف الديون، سيف مسلط على رقبتها؟
هل هذه هي المقدمة الطبيعية للنظام الصيني العالمي الجديد، والذي غالباً لن يكون منفرداً بمقدرات العالم، بل شراكة مع روسيا والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا، أي مجموعة دول “البريكس”، عطفاً على نحو ثمانين دولة أخرى مرشحة للانضمام ليخرج على العالم تجمع “بريكس+”، قادر على كتابة الخطوط التمهيدية للنظام الأحادي القطبية، الأميركي الهوية والهوى، والذي يعيش العالم تبعات أخطائه منذ سقوط الاتحاد السوفياتي؟