Uncategorized

محاسبة الشعوب الأوروبية لحكوماتها.. ماذا فعل الساسة الأوروبيون بأنفسهم؟

المتظاهرون في عموم أوروبا، يحمّلون حكوماتهم مسؤولية التضخم المتسارع الذي تعرفه بلدانهم، والذي يهدد القدرة الشرائية لعموم المواطنين

بقلم: لطفي العبيدي

الورطة السياسية في الميدان الأوكراني تتعاظم بشكل يجعل الديمقراطيات الليبرالية الغربية اليوم، تعاني من تبعات الأزمات الاقتصادية، ومن تحوّلات القوة العالمية ضمن سياق دولي معقد بالأزمات.

وفي الأثناء، النفط لا يزال يلقى طلبا في السوق العالمية، ما يجعل حرب الطاقة والغاز الحالية في صالح روسيا، إلى حين انتشار مصادر الطاقة غير الأحفورية في غالبية اقتصاديات العالم.

وأحد الدروس المستفادة من حرب أوكرانيا تكمن في أنه من الخطر أن يعتمد بلد ما على خصم جيوسياسي للحصول على طاقته، من دون أن تكون له القدرة على إيجاد بدائل في المدى المنظور.

موسم الاحتجاجات والإضرابات في المدن والعواصم الأوروبية يتعاظم، على خلفية ارتفاع أسعار الطاقة، وتفاقم التضخم وانهيار المقدرة الشرائية. وتواجه دول القارة مخاوف اضطرابات اجتماعية واسعة، نتيجة الرهانات الاستراتيجية الخارجية المرتبطة بالحرب الأوكرانية، وتجنيد الولايات المتحدة للحكومات الأوروبية في مواجهة بوتين، على حساب اعتبارات أوضاعها الداخلية.

وأزمة الطاقة العالمية الموجودة الآن هي معضلة بالنسبة إلى القارة العجوز، التي تعتمد على إمدادات الطاقة الروسية بشكل هائل، لاسيما الغاز الطبيعي الذي يستخدم لتوليد الكهرباء وتدفئة المنازل. والمتظاهرون في عموم أوروبا، يحمّلون حكوماتهم مسؤولية التضخم المتسارع الذي تعرفه بلدانهم، والذي يهدد القدرة الشرائية لعموم المواطنين. هتف المتظاهرون في العاصمة التشيكية، براغ، وفي غيرها من الميادين الأوروبية بشعارات مناهضة للاتحاد الأوروبي ولحلف الناتو، وأن تكون «التشيك أولا»، مطالبين الحكومة بإيجاد حل للظروف الاقتصادية الصعبة الناتجة عن أزمة الطاقة التي تعرفها البلاد.

ولحقت كل من ألمانيا وإيطاليا بركب الموسم الاحتجاجي، في وقت تجمع استطلاعات رأي على أن كلا من بولندا وفرنسا مرشحتان بقوة للانضمام. وندد المتظاهرون الألمان، على غرار نظرائهم التشيكيين، بارتفاع أسعار فواتير الطاقة. كما طالبوا الحكومة الفيدرالية، بقيادة الاشتراكي أولاف شولتس، بإعادة فتح خط أنابيب «نورد ستريم 2» واستئناف استقبال صادرات الغاز الروسي عبره. واليوم تنضاف سويسرا إلى ركب الاحتجاجات الشعبية على أزمات التضخم وغلاء المعيشة. في نابولي الإيطالية، الغضب الجماهيري تجلى قبل أسابيع عندما أحرق المتظاهرون الغاضبون من أسعار الطاقة فواتير الكهرباء والغاز في الشارع العام، مرددين شعارات «لن ندفع الثمن».

كما حاصروا مبنى بلدية المدينة، مطالبين بإيجاد حل للبطالة والفقر المتفشيين فيها، اللذين تزداد وطأتهما مع أزمة الطاقة. وكل هذا يتراكم بطرق عديدة، منها الإضرابات العمالية. إذا نظرت إلى كل دولة على حدة، ستجد أن لها أسبابها الخاصة، ولكنه نوع من التيار الخفي الذي تلمسه في كل مكان.. إنه نوع من الازدراء تجاه مؤسسات الوسط التي أدارت المجتمعات طيلة سنوات عديدة، إنها نتيجة طبيعية لما تعنيه هذه السياسات بالنسبة للناس. في أوروبا مثلا، فإن السمة الأساسية للاتحاد الأوروبي غير ديمقراطية في تقدير تشومسكي، لأن القرارات الكبرى التي يتخذها خارجة عن سيطرة الناس، وصارت بأيدي بيروقراطية تصنع القرارات، ما ينتج عنه الاستياء، خصوصا أن السياسات يطبعها التقشف بشكل كبير. في أماكن أخرى حول العالم هناك قضايا مغايرة، ولكنه «نوع من التيار الخفي، إنه نوع من الربيع العربي، الذي ربما سيعود».

المستشارة الألمانية السابقة أنغيلا ميركل، حرصت طيلة سنواتها الست عشرة في السلطة، على المحافظة على العلاقة مع روسيا، في محاولة لفصل الخلافات الجيوسياسية عن المصالح الاقتصادية بين البلدين. اليوم، في ألمانيا، أكبر اقتصاد أوروبي، وبسبب حالة الاستلاب السياسي لمعظم الحكومات الغربية، التي تجرّها واشنطن خلفها، تندلع احتجاجات في مدينة لايبزيغ وغيرها، للتنديد بسياسات الحكومة في مجال الكهرباء والغاز. وهذه الاحتجاجات الجماهيرية وموجة الإضرابات العمالية في أكثر من بلد أوروبي، هي جزء مما راهنت عليه موسكو ضمن مسار المواجهة مع حلف الأطلسي على الأراضي الأوكرانية. وعندما يفقد مواطنو الدول الأوروبية القدرة على تحمل الفواتير المرتفعة للكهرباء والتدفئة وأسعار السلع والخدمات المرتبطة بالطاقة، سيضطرهم ذلك للخروج في مظاهرات من شأنها إسقاط الحكومات الحالية «الوسطية»، وصعود أخرى أقل عدائية مع موسكو. في هذا السياق يقول والتر راسل ميد في «وول ستريت جورنال»، إنّ الديمقراطيات الغربية أصبحت اتحادا كونفيدراليا غير محكم الترابط وصارت مجرد كلام، من دون فعل، وأنّ الواقع القاسي هو أن أمريكا وحلفاءها يخسرون الأرض أمام خصومهم، وميزان القوى يتحرك بحدة ضدهم، وإنّ الغرب قد نسي ما يعنيه الفوز، بينما أصبح يتقن الخسارة. ويستشهد بسلسلة من الهزائم بدءا من نورد ستريم، خط الغاز الروسي لأوروبا، إلى حملات الصين على التبت وهونغ كونغ وشينغيانغ، إلى غزو روسيا لجورجيا وأوكرانيا. كل ذلك حدث من دون أي رد جاد من الحلفاء. ويتحدث ويليام مولوني في «ذا هيل» عن وجود ثلاث قوى عظمى في العالم اليوم، هي الولايات المتحدة وروسيا والصين. وقال إن الأخيرتين تتماشيان بشكل وثيق مع هدف مشترك يتمثل في الإطاحة بالهيمنة العالمية لأمريكا.

وللأسف، أدى سوء إدارة أمريكا لعلاقاتها مع روسيا إلى جعل هذه النتيجة أكثر احتمالا. بالمحصلة، أضعفت الحرب الروسية الأوكرانية سمعة الناتو، وشكّكت بدوره الوظيفي، بعد أن بدأت بعض الدول الكبرى الأوروبية تجديد الحديث عن صيغة استراتيجية للحماية، تتّخذ من مجلس التعاون الأوروبي إطارا عسكريا بديلا للناتو. وهذه الأفكار سوف تصبح أكثر جدية في المستقبل المنظور بكل تأكيد. صدمة الطاقة المرتبطة بالغزو الروسي لأوكرانيا، تختبر عزم الدول على خفض انبعاثات الكربون بسرعة لمكافحة ظاهرة الاحتباس الحراري، لكن قمم المناخ لا تؤشر إلى شيء من ذلك، وهي في معظمها فاشلة. ويبدو أنّه لن يكون هناك اتفاق عالمي حول ما الذّي يُشكّل النظام السياسي المثالي. والطموحات الجيوبوليتيكية الضيقة الساعية نحو مجالات حيوية بعينها لأجل الهيمنة لا تزال متواصلة. إنّه صراعٌ دائم لأجل الاعتراف، ومن تعوّد على الهيمنة لا يريد منافسين أندادا، حتى إن تمت التضحية بشعب بأكمله في سبيل استنزاف منافس إقليمي وتركيعه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى