“كش ملك”.. حكاية سقوط قطع الشطرنج الفرنسية في الساحل الأفريقي

التطورات الأفريقية الأخيرة –التي يتعلق جزء منها بالتمرد ضد النفوذ الفرنسي– تغري باستدعاء فكرة السياق التاريخي لتبيان كيف تتراكم تحولات وتطورات دولية لتشكل هذا السياق.

والمشكلة في حال النموذج الفرنسي أنه كان دوماً تعبيراً عما وصفته سابقاً بالمسار المتعرج للنفوذ والدور الدولي، مع أن من يتأمله بدقة قد يتعجب كثيراً مما استطاعت هذه الدولة الذكية تحقيقه والأسس التي قام عليها بريق حضورها الدولي.

ثم توالت الصدمات وآخرها انقلاب النيجر ضد الرئيس المنتخب محمد بازوم، ومنذ الساعات الأولى اتضح أن هناك توجهات لدى السلطة العسكرية الجديدة والشارع في هذه الدولة لتحميل باريس جزءاً رئيساً من اللوم تجاه الأوضاع المتردية في البلاد،

وكانت التحركات الشعبية الواسعة والسريعة تعبيراً واضحاً عن عفوية وعداوة متأصلة كانتا في حاجة إلى شرارة كي تنفجر.

كان الأمر بدأ منذ سنوات قليلة بالانقلابات التي وقعت في أفريقيا الوسطى ومالي وتقلص النفوذ الفرنسي واعتماد هاتين الدولتين على مرتزقة مجموعة “فاغنر” الروسية كبديل للقوات الفرنسية التي لم تنجح في حسم المواجهات ضد الميليشيات المتطرفة في البلدين وفي المنطقة المسماة “الساحل والصحراء” كلها.

وساعدت فرنسا بقوة في بلورة هذه الاتجاهات العدائية عندما شحنت واستترت خلف رد فعل دول “إيكواس” أي الجماعة الاقتصادية لغرب أفريقيا، فضلاً عن الاتحاد الأوروبي، ولم يكن من شأن هذا إلا بلورة الاستقطاب ضد فرنسا، بحيث يبدو الأمر الآن وكأن من الصعب تماماً عودة الأوضاع في البلاد إلى ما كانت عليه.

ثم تلا هذا انقلاب الغابون الذي وجد ردود فعل مختلفة حيال تجاوزات الانتخابات الرئاسية التي فاز فيها الرئيس المخلوع علي بونغو، ومع تباين كل من الحالات الخمس للتمرد على النفوذ الفرنسي، أي “مالي وأفريقيا الوسطى وغينيا والغابون والنيجر”، فإن ثمة مفاتيح مشتركة هي القوات المسلحة، واستغلال العداء والرفض الشعبي للنفوذ الفرنسي، ثم بدرجة أقل البديل الدولي –وهو بالمناسبة شديد التعدد (أميركي وروسي وصيني)- غير واضح المعالم.

السؤال المعقد حول النفوذ الفرنسي

ربما يكون السؤال الذي يتبادر إلى ذهن أي متابع خارج عالم العلاقات الدولية هو كيف استطاعت فرنسا من الأساس الاحتفاظ بنفوذها القوي في مستعمراتها السابقة كل هذا الوقت،

وما الذي حدث؟ فقد خاضت فرنسا معركة تكسير عظام شرسة خسرتها في الجزائر والهند الصينية خلال خمسينيات القرن الماضي في معارك كانت من أبرز عناوين تصفية الاستعمار التقليدي، وتزامن مع هذا أيضاً هزيمتها السياسية في العدوان الثلاثي ضد مصر، وتراجعها في ختام هذه المعارك إلى حجمها السياسي والاقتصادي الفعلي.

لكن عوامل عدة طرأت تدريجاً على المشهد بعد انتهاء الحرب الباردة، أولها النمو التدريجي لمصالح أجنبية عديدة في هذه الدول وفي القارة عموماً، وبشكل خاص الصين والهند ومعها قوى متوسطة طورت مصالح في القارة على رأسها تركيا وإيران.

لكن باريس تعاملت بذكاء مع مستعمراتها في غرب أفريقيا وانحنت سريعاً للعاصفة وتجاوبت مع دعاوى الاستقلال من دون مواجهات عسكرية في معظم الأوقات، ومع تباين واختلاف سنوات استقلال مستعمراتها في غرب أفريقيا حافظت بشكل أو بآخر على روابطها ونفوذها مع معظم النخب السياسية والفكرية الذين استقبلتهم تعليمياً

وربما أيضاً في منظومة مصالح شخصية، وباستثناء حالات محدودة من تمرد هذه النخب فقد واصلت الأخيرة علاقة تبعية سياسية وثقافية لهذه البلدان وتدخلات في الحياة السياسية للحفاظ على هذا النفوذ ومعها مواصلة مصالحها الاقتصادية.

بعبارة أخرى سقطت الهالات وتكشفت تبعية النخب السياسية لقوة لا تهمها سوى مصالحها الذاتية، ولا وجود لأي أوهام أو شعارات حول بريق هذا المستعمر السابق، بل أصبح المواطن البسيط على دراية بارتماء كثير من مكونات نخبته في الأحضان الفرنسية من دون مشاركة هذا المواطن في أي مزايا مع انتشار سمعة التوجهات العنصرية الفرنسية عن حق وعن باطل في عالم تتدفق فيه المعلومات.

تفاعلات دولية أكبر

كما أن كل هذه الخلفية السابقة تدور في عالم يموج بالتحولات المعقدة والمتسارعة، ومحوره الرئيس هو صعوبة استمرار الترتيبات التي شهدها العالم بعد انهيار الاتحاد السوفياتي من هيمنة أميركية- غربية مطلقة،

وفي الوقت نفسه صعوبة وتعقد مولد ترتيبات جديدة مع اتساع حرية حركة الأطراف والقوى الكبرى والمتوسطة التي تتيح لها تدخلات أوضح وأحياناً تتصدى للقوى الأكبر في تحقيق نفوذ يدفع تلك القوى الأكبر، سواء واشنطن ذاتها أو موسكو، للعمل من خلفها، وذلك مثل حالتي تركيا وإيران.

وعلى رغم أن رصدنا للدور الفرنسي على أنه كان دوماً مذبذباً إلى حد أن وصفناه بـ”المسيرات المتعرجة” لأنه يسير تاريخياً وفق هذا النهج ربما منذ الثورة الفرنسية وحتى خلال مراحل بناء مستعمراتها ثم فقد هذه المستعمرات،

فقد تعمق هذا المسار المنحدر في العقود الأخيرة بحيث كان السؤال هو كيف استطاعت فرنسا الإبقاء على حضور دولي ومكانة على رغم هذا التراجع المستمر؟ وأكثر من هذا فقدت السياسة الفرنسية كثيراً من زخمها واستقلالها في المنظومة الغربية بشكل أسرع بعد رحيل الرئيس جاك شيراك، لكن الشواهد الآن تقول إن الأمور تسير بوتيرة أسرع من ذي قبل.

مقالات ذات صلة