غيركم يتعب، لماذا لا تتعبون؟
هناك قادة من حديد لا يملون ولا يتعبون وكلما أعطيتهم المزيد من السلطة طلبوا المزيد وكلما واجهت بلادهم المزيد من المشاكل والصعوبات بسبب سياسات تبنوها تمسكوا بالسلطة أكثر

بقلم: علي الصراف
جاسيندا أرديرن ليست رئيسة وزراء فاشلة. إنها واحدة من أفضل ما عرفت دول العالم من القيادات الوطنية. بلادها ظلت مستقرة، اقتصاديا واجتماعيا. ونجحت في مواجهة مصاعب كبرى، ليس أقلها الإرهاب وليس أكثرها وباء كورونا. تولت السلطة وهي في السابعة والثلاثين، لتكون أصغر رئيس وزراء في العالم. وتغادر وهي ما تزال في الثالثة والأربعين. ما تزال شابة، وفقا لكل المعايير. وكان بوسعها أن تمضي في قيادة البلاد لدورة ثانية. وبالنظر إلى شعبيتها العالية، بفضل صفات شخصية اتسمت بالحنو والتعاطف ونبل البصيرة الإنسانية، فإن فوزها في الانتخابات المقررة في أكتوبر المقبل، يكاد يكون أمرا محتملا إلى حد بعيد. ولكنها قررت الاستقالة. شعرت بالتعب. قالت إن هناك غيرها ممن يمكن أن يقود البلاد على نحو أفضل. ثم قالت “لا تبحثوا عن السبب الحقيقي. السبب بسيط، هو أنني بشر”.
سوى أن هناك قادة من حديد. في الواقع، من فولاذ. لا يملون ولا يتعبون. وكلما أعطيتهم المزيد من السلطة، طلبوا المزيد. وكلما مددت لهم مدّا، مدّوا لأنفسهم أكثر. بل أنهم كلما واجهت بلادهم المزيد من المشاكل والصعوبات، بسبب سياسات تبنوها، تمسكوا بالسلطة أكثر، ليعالجوا ما أفسدوه، بما أفسدوه، أخذا منهم بالقول: “وداوها بالتي كانت هي الداء”.
البشر أنواع طبعا. هناك بشر من نوع جاسيندا أرديرن، تشعر أنها أم، وليست زعيما خارق القدرات يمارس السلطة وكأنه “غريندايزر”.
ولأنها أم، فإنها تحب أن تأخذ ابنتها إلى المدرسة، وتجالسها وتلعب معها. وتمارس حياة عادية في منزلها مع زوج يذهب إلى عمله ويعود ليجد منزلا بانتظاره، لا فرقة حرس وطني. وكانت ثاني اثنين، غلبت عليها طباع الأمومة حتى وهي في السلطة. فحملت. وكبرت بطنها. وأنجبت، وهي تقود الحكومة وتخاطب البرلمان، وتجري محادثات وتتخذ قرارات، سهلة وصعبة. الأم كانت هي الأعلى.
شيء من هذا القبيل فعلته الراحلة بينظير بوتو. ابنها بيلاوال بوتو زرداري هو الآن وزير خارجية باكستان. إنه ابن لأم وأب، كلاهما جرب السلطة من أعلاها، وظلا زوجا وزوجة. لا الأب كان ضابط مدفعية في منزله، ولا الأم كانت هدفا للقصف.
ولكن هناك بشر من نوع آخر. ينسون أنهم بشر. وهم بلا عائلات. الشعب هو العائلة، وهم رب العائلة. لا توجد تفاصيل حياتية من تلك التي تعطي الانطباع بأنهم كائنات مماثلة. لأن السلطة تمنحهم الشعور بأنهم ليسوا كائنات أصلا. ولا يخطر لهم التعب على بال. يمارسون السلطة 24 ساعة على 24، لسبعة أيام في الأسبوع، على مر أسابيع السنة، حتى ولو كانت سنة كبيسة. لا توجد زوجة ينامون معها لتحبل. ربما أفاقوا على متع أخرى في الحياة. وجود كتيبة من الحرس الوطني مقابل غرفة النوم يجعل من العسير ممارسة الحب بكل ما قد ينطوي عليه من أصوات وضجيج. وفي خضم المعمعة، قد يتصل وزير الداخلية، فتهبط العزائم.
بعض البشر، محكومون بمعايير وضوابط قانونية أو دستورية يمتثلون لها. بعضهم الآخر، تلك المعايير والضوابط هي التي تمتثل لهم.
أفهل تراهم أنصاف آلهة؟ لا، طبعا. ثلاثة أرباع آلهة؟ بالتأكيد، لا. فذلك قليل بحق أبطال خرقوا سقف الميزان التجاري. وغاصوا في بحر الديون. ولعبوا كرة قدم مع التضخم. وتجاهلوا كل الخبرات الاقتصادية، لأنهم، إذ تزودوا بزاد المعرفة المطلقة من الحزب، أو الكتيبة العسكرية، فقد أصبحوا هم الخبراء في كل شيء. اسألهم عن أي شيء في الكون. سوف تجد الجواب الوافي والشافي جاهزا.
وفي دلالة على أنهم ليسوا بشرا، فإن الجماهير “تؤمن” بهم. وهو إيمان روحي، لا يخضع للمساءلة، ولا التدقيق، ولا قراءة الأرقام عن معدلات الفقر أو البطالة. ثم لا ضرورة للنظر إلى “الدخل القومي”، تراجع أو تقدم، لأن وجودهم هو “الدخل القومي”. إنه هو الثروة التي لا تنضب. ولهذا السبب فإن الإيمان به يمتد إلى الأبد، وإلى ما بعد الأبد.
أرديرن استبقت موعد الانتخابات لتستقيل. بعض البشر يتجاهل الموعد، أو يرجئه أو يلغيه. قناعة منه أنه غير مهم. فحيث أنه فائز فائز، في جميع الأحوال، فإنه يوفر على الناس المتاعب. فيعلن فوزه عن طريق التلفزيون. فتتظاهر “الجماهير الشعبية” ترحيبا بالقائد البطل الذي فاز بجميع الأصوات من دون تصويت.
فإذا جرت الانتخابات، بوجود مراقبين دوليين، فالغاية منها ليست إحصاء أصوات معروفة نتائجها، وإنما لإقناع أولئك المراقبين بأن الأمور تمضي على خير ما يرام. فالانتخابات إنما تُجرى لهم، لا للشعب الذي سلم أمره للزعيم تسليمَ مؤمنٍ لا يُنكر ما أصابه من الخيرات والنِعم، ولو بات على الطوى.
أرديرن، بعد كل ما حققت، ترى أن هناك من يمكنه أن يقدم شيئا أفضل. في حين لا يوجد من هو أفضل، لدى بعض الشعوب الأخرى. الأفضل هو الموجود. والأمة التي أنجبته ليس بوسعها أن تنجب خيرا منه.
فلأنها جربت الحمل والولادة، فقد عرفت أن أمة النيوزيلنديين يمكنها أن تحبل وتلد، ليخرج منها قادة آخرون، بل ويمكن تسليم راية المسؤولية لهم مبكرا، لكي تتخفف من أعباء وظيفة شاقة. فيكون بوسعها أن تجلس في مطعم أو تسافر مع أسرتها من دون قيود، ولا بروتوكولات ولا حراسة. ما أحلى أن تتناول طعامك على طاولة مطعم مثلما يفعل البشر الآخرون. بعض النظرة السابقة التي توجب الاحترام والترحيب سوف يستمر. ولكن الناس سوف يرون أنك إذ صرت “بشرا عاديا”، فلسوف يشعرون بأنهم ترقوا بوجودك بينهم، فلا ينهالون عليك بالترحيب. يتركونك وشأنك مع انحناءة خفيفة، وابتسامة، أو إغماضة عين، وذلك من جملة رموز الاحترام والترحيب بمكانك الجديد بينهم.
البشر الفوق عاديين، متعتهم هي أن يُحتفى بهم، فيلتف الناس من حولهم، طمعا بنظرة، أو طمعا بلمسة مباركة من اليد. فيشعر الـ”غريندايزر” أنه عسل، ويشعر الناس أنهم ذباب.
“تعبتُ”، قالت جاسيندا أرديرن. لأنها بشر. فهل عرفت الآن، لماذا غيرها لا يتعبون؟