العالم يدخل مرحلة التحوّل… هل أصبح الغرب يجيد الخسارة؟
العملية، تريد واشنطن أن تعيد ترسيخ نفسها باعتبارها المحور الأساسي لنظام دولي قائم على قواعد معيّنة، ولكن الولايات المتحدة الممزقة داخليا، ستصبح أقل استعدادا وقدرة على قيادة المسرح الدولي

بقلم: لطفي العبيدي
يشهد العالم مزيجا معقدا من التوترات المتصاعدة، ينظر في سياقها البعض إلى أنّ قبضة أمريكا بدأت تنفك، وهيمنتها وسطوتها على النظام الدولي بدأت في التحلل. ويفسح النظام العالمي المتحوّل، الطريق لمزيج متنوّع من النزعة القومية الحمائية، ولمجالات النفوذ والمشاريع الإقليمية للقوى الكبرى. ولا يمكن إنكار وجود أزمة أكثر عمقا، مرتبطة بالنزعة الدولية الليبرالية ذاتها، وللتخلص من الخصائص العميقة المختلة في النظام الاقتصادي والاجتماعي العالمي، يحتاج صناع السياسة والمتحكمين في مصير الكوكب إلى إعادة اكتشاف مبادئ وممارسات فن الحكم، والعمل الجماعي ضد النزوع نحو الفوضى ودمار الهياكل الإنسانية. وبالمثل تحتاج المؤسّسات العالمية متعدّدة الأطراف من هيئة الأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي وما دونهما، لأن يتّم إصلاحها لتعكس هذه الحقيقة العالمية الجديدة.
مع انتهاك أحد الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن للقانون الدولي، ومبدأ عدم تغيير الحدود بالقوة، وهو الحال الذي دأبت عليه أمريكا وحلفاؤها لعقود أيضا، تظل الأمم المتحدة بهياكلها كافة مهمشة في الغالب. في الأثناء، فإنّ التعامل مع أوكرانيا كجزء من المواجهة بين الشرق والغرب، من شأنه أن يفسد لعقود أي احتمال لإدخال روسيا والغرب عموما، وروسيا وأوروبا خصوصا في نظام دولي تعاوني. وإذا كان لأوكرانيا أن تعيش وتزدهر، فيجب أن لا تكون البؤرة الأمامية لأيّ من الجانبين، الشرقي أو الغربي، ضد الآخر، بل ينبغي لها كما قدّر وزير الخارجية الأسبق هنري كيسنجر أن تعمل كجسر بينهما. ويتعين على روسيا أن تتقبّل أنّ محاولة إرغام أوكرانيا على التبعية، وبالتالي نقل حدود روسيا مرة أخرى، من شأنه أن يحكم على موسكو بتكرار تاريخها، من دورات الانجراف الذاتي للضغوط المتبادلة مع أوروبا والولايات المتحدة. ويتعين على الغرب أيضا، أن يدرك أن أوكرانيا بالنسبة إلى روسيا، لا يمكن أبدا أن تكون مجرد دولة أجنبية. ديناميكية جيوسياسية، تبدو في سياقها إدارة بايدن حريصة على استعادة سمعة الولايات المتحدّة، وترميم صورتها، بعد أربع سنوات قضتها تحت حكم الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، فهي تريد أن تُميّز بشكل واضح بين سلوك الولايات المتحدة وقيمها من جهة، وسلوك وقيم خصومها كالصين وروسيا من جهة أخرى.
في خضمّ هذه العملية، تريد واشنطن أن تعيد ترسيخ نفسها باعتبارها المحور الأساسي لنظام دولي قائم على قواعد معيّنة، ولكن الولايات المتحدة الممزقة داخليا، ستصبح أقل استعدادا وقدرة على قيادة المسرح الدولي. ومن الصعب أن تعيد ترميم صورتها في الشرق الأوسط خاصة، فقد سمح الدعم الأمريكي المُطلق لإسرائيل لفترة طويلة بمتابعة سياسات كانت لها نتائج عكسية على نحو متكرّر، كما وضعت مستقبلها موضع شك أعظم على المدى البعيد. ويأتي على رأس هذه السياسات المشروع الاستيطاني نفسه، والرغبة غير الخفيّة إطلاقا في خلق «إسرائيل الكبرى»، التي تشمل الضفّة الغربية، وتحصر الفلسطينيين في أرخبيل من الجيوب المعزولة عن بعضها بعضا، والكليشيهات المألوفة المتعلّقة بحلّ الدولتين، و»حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها» تفقد قوتها التعويذية السحرية مع وصول اليمين الفاشي المتطرف إلى السلطة. فالإدارة الأمريكية التي تعتبر نفسها وسيطا في حل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ما زالت تُقدّم للفلسطينيّين خطابا بلاغيا فارغا، عن حقّهم في العيش بحريّة وأمن، مع دعم حلّ الدولتين. إنّ ادّعاءها بتبنّي موقف أخلاقي متفوّق يبدو ادعاء مكشوفا، يعتريه النفاق بتعبير ستيفن وولت. وإذا كان للولايات المتحدّة الأمريكية علاقات عادية مع إسرائيل فستحظى الأخيرة بالاهتمام الذي استحقّته لا أكثر.
تشومسكي الذي يبدو حريصا على نقد الديمقراطية النيوليبرالية، ويرغب في تخليص الديمقراطية من سطوة المال والتفاوتات الطبقية، التي تتسبب بنجاح الشعبوية. يرى أنّ هناك أناسا غاضبين وغير راضين، ومستائين من المؤسسات القائمة، ما يشكل بالنسبة للديماغوجيين أرضية خصبة لتأليب غضب الناس تجاه أكباش الفداء، التي عادة ما تكون من الفئات الضعيفة، كالمهاجرين الأوروبيين المسلمين أو الأمريكيين من أصل أفريقي وغيرهم، ولكنه في الوقت نفسه، يؤدي إلى نوع من رد الفعل الشعبي الذي يسعى إلى التغلب على هذه الأزمات. هناك الكثير من الانتفاضات ضد الأنظمة القمعية، وجلها مرده إلى الأثر الذي خلفته البرامج النيوليبرالية طيلة الجيل الأخير. لقد تركت أثرا قاسيا في كل مكان تقريبا، في الولايات المتحدة وأوروبا، على سبيل المثال، فإن معدل تركز الثروات، الذي شهد ركودا كبيرا بالنسبة لغالبية الشعوب، أدى إلى تقويض الأشكال الديمقراطية، تماما كالآثار التي خلفتها في أماكن أخرى على غرار برامج التقويم الهيكلي في أمريكا اللاتينية، التي أنتجت عقودا من التخلف. الآثار السلبية للعولمة على الطبقات الاجتماعية الدنيا والمتوسّطة، ترافقت مع الاستياء القومي ضدّ الهجرة، والشعور بفقدان السيطرة على السيادة لتغذية ردود الفعل الشعبوية العنيفة ضدّ مبادئ وممارسات النظام الليبرالي. ومع اشتداد الأزمة بسبب الحرب الروسية الأوكرانية، وكذلك ملف إيران النووي ومساراته المتعثرة، تبدو أوروبا بين المطرقة والسندان، وإن كانت لا تحب في الواقع أعمال الكراهية وفرض العقوبات ضد موسكو، أو ضد طهران، نظرا لتشابك مصالحها الاقتصادية، لكن عليهم أن يتبعوا «المعلم»، بتوصيف تشومسكي. فمن لا يمتثل له يُطرد من النظام الدولي المالي والاقتصادي. هذا ليس قانون الطبيعة، بل هو قرار أوروبا أن تبقى تابعة «للمعلم السيد» في واشنطن. هي وبلدان أخرى كثيرة، ليس لديها خيار حتى، ورغم أنّ بعض الشعوب والبلدان استفادت من العولمة المفرطة، فقد تسبّبت الأخيرة في نهاية المطاف في مشكلات اقتصادية وسياسية كبيرة داخل الديمقراطيات الليبرالية. وهنا يتفق ميرشايمر مع تشومسكي في أنها أدّت إلى تآكل خطير في دعم النظام الدولي الليبرالي. في الوقت نفسه، فقد ساعدت الديناميكية الاقتصادية التي جاءت مع العولمة المفرطة، الصين في التحول بشكل سريع إلى قوة عظمى، حيث أعادت ترتيب نفسها على نحو متقارب أو متفوق على القوى الكبرى الأخرى، وقد وضع هذا التحوّل في ميزان القوى العالمي حدّا للأحادية القطبية، التّي تعتبر شرطا مسبقا لنظام عالمي ليبرالي قائم على قواعد.
عندما قدم ميخائيل غورباتشوف رؤيته لإدارة حقبة ما بعد الحرب الباردة، اقترح ما سُمّي حينها دار أوروبا المشتركة، كان ذلك أحد الخيارات بأن تكون منطقة أوروبا وآسيا موحدة وممتدة من لشبونة إلى فلاديفوستوك دون أي تحالفات عسكرية. اليوم، يشهد العالم إحياء بعض أسوأ جوانب الجغرافيا السياسية التقليدية. وقد تضافرت حروب القوى الكبرى في أوروبا ومنطقة المحيطين الهندي والهادئ، مع تزايد سياسات إسرائيل المتطرفة والعنصرية، واحتمالية تسبب إيران في عدم الاستقرار في الشرق الأوسط، لإنتاج أخطر لحظة منذ الحرب العالمية الثانية. ومع اشتدادا منافسة القوى العظمى، والطموحات الإمبريالية، والصراعات على الموارد، يتجلّى الرهان في كيفية إدارة اصطدام الجغرافيا السياسية القديمة والتحديات الجديدة. ومن غير المعقول أن يوجد بلد يمثل الفناء الخلفي لأي دولة أخرى، وهذا ينطبق على أوروبا بقدر ما ينطبق على أمريكا وآسيا وكل منطقة أخرى في العالم.