بلينكن وتثمين إعلان القدس

أنهى وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن جولته الشرق أوسطية التي انطلقت يوم الأحد من مصر واختتمت يوم الثلاثاء، بزيارة إسرائيل والضفة الغربية، في خضم أحداث عنف كبيرة تشهدها جنين وغيرها من الأراضي الفلسطينية، أدت إلى رد فعل منطقي من قبل السلطة الفلسطينية التي علقت التنسيق الأمني مع سلطات الاحتلال الإسرائيلي بعد مقتل عشرة فلسطينيين، تسعة منهم في مخيم جنين للاجئين.
لا تختلف المقاربة الأميركية في التعامل مع ملف الشرق الأوسط سواء كانت من الحزب الجمهوري أو الديمقراطي، حيث تتركز في مضمونها أساسا على ضرورة الحفاظ على الوضع القائم وإحياء جهود السلام وضرورة وقف التصعيد. ولكن، حل الدولتين قد غاب هذه المرة عن أجندة بلينكن الذي يضع نصب أعينه المزيد من التقارب مع إسرائيل كشريك إستراتيجي في المنطقة، مع التعويل على مصر كوسيط هام بعد أن أصبح بإمكانها اليوم نقل رسائل إلى حماس والجهاد، خاصة مع القنوات الدبلوماسية بين القاهرة وغزة. وتولي الإدارة الأميركية لعلاقتها مع مصر أولوية كبير خاصة بعد أن نجحت القاهرة في جهود التهدئة بعد معركة سيف القدس في مايو 2021، واستطاعت في وقت وجيز أن تصل إلى هدنة بين الجهاد الإسلامي وحكومة لابيد في المواجهة الأخيرة في أغسطس الماضي.
زيارة بلينكن تندرج ضمن تفعيل وتثمين “إعلان القدس” للشراكة الإستراتيجية الذي وقعه الرئيس الأميركي جو بايدن مع رئيس الوزراء الإسرائيلي يائير لابيد، وهي زيارة تضع في أولوياتها الملف الإيراني وضرورة أن تقف إسرائيل معززة بالقوة الأميركية في وجه أي محاولة إيرانية لامتلاك سلاح نووي.
وقد سعت إسرائيل لرفع مستوى التصعيد خلال الأيام الأخيرة، قبل زيارة بلينكن، لربط الملف الأمني الداخلي لإسرائيل بالملف الخارجي، لتحصل بالتالي على دعم أميركي من شأنه أن يقف حاجزا أمام المحاولات الفلسطينية للتوجه إلى محكمة العدل الدولية.
لقد استعمل بلينكن مصطلحات قوية في إدانته لهجوم القدس ووصفه بالهجوم المروّع، وهي إشارة إلى أن الولايات المتحدة ستسقط الرواية الفلسطينية أمام محكمة العدل الدولية، وستؤكد أن الرد الإسرائيلي يأتي كرد فعل دفاعي على الوحشية التي يمارسها الفلسطينيون في حق الإسرائيليين، وما هجوم القدس الشرقية إلا خير دليل على ذلك.
بكل تأكيد سيحاول بلينكن خلال زيارته إلى رام الله ممارسة الضغط على السلطة وتذكيرها بأن وضعها الضعيف وتراجعها سيمكنان حماس من ملء الفراغ، وبالتالي فإن تعليقها للتنسيق الأمني مع سلطة الاحتلال سيكون بمثابة أكبر خطأ ترتكبه السلطة في حق نفسها، بل ستكون له نتائج وخيمة ستجعل الولايات المتحدة تفكر في إعادة النظر في تصنيف فتح، بما أن الضفة ستتحول إلى بؤر تنطلق منها هجمات فلسطينية ضد إسرائيل. ولكن محاولة بلينكن ستكون فاشلة، إذ لم يعد للسلطة الفلسطينية من شيء لتخسره، خاصة وأنها قد جربت نتنياهو سابقا، وهي تدرك جيدا أن حكومته المتطرفة ستعمل لإضعافها أكثر فأكثر كما ستعمل لإسقاط الأمل الأخير في قيام مشروع الدولة الفلسطينية.
“ضرورة الحفاظ على الوضع القائم في الأماكن المقدسة في القدس”، هي جملة لطالما كررها المسؤولون الأميركيون في تعقيبهم على كل تصعيد. وهي رسالة تحمل تأنيبا لطيفا لإسرائيل التي تريد وضعا على مقاسها في الأماكن المقدسة وغيرها. لطالما كان الخطاب السياسي والعمل الحكومي يسير في اتجاه إنكار حل الدولتين، بل العمل على إلغاء الدولة الفلسطينية وتحويلها كانتونة “يهودا والسامرة”، تخضع فيها أماكن ودور العبادة في القدس للسيطرة الأمنية الإسرائيلية المطلقة. الوضع القائم حسب النظرة الأميركية هو ممارسة إسرائيل لسيطرتها على القدس، من دون تصعيد ومن دون دفع الفلسطينيين إلى مقاومة الأمر الواقع.
الإدارة الأميركية تدرك تماما أن الحلول غير ممكنة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وأن إيقاف دوامة العنف في ظل وجود نفس الظروف المغذية له أمر مستحيل، وأن إجبار إسرائيل على كف عنفها أمر غير ممكن، ما دامت الأخيرة ترى أن عنفها له مبررات وأن وجودها لن يكون له أساس إذا تم التساهل مع الفلسطينيين. ولكن الإدارة الأميركية مجبرة على ممارسة دور كلاسيكي في ملف القضية الفلسطينية، بحكم أنها لا تريد أن تظهر في صورة من هو غير مهتم بما يجري على أرض الواقع: على الأقل أمام الرأي العام الأميركي، ولفرض هيبتها أمام محور المقاومة الذي تدعمه إيران، بالصورة التي تضع إسرائيل في ثوب القوي. لهذا يمكن اعتبار الزيارات التي تتم بين الفترة والأخرى مجرد زيارات روتينية تحمل في طياتها رسائل للقوى المعادية للولايات المتحدة وإسرائيل في المنطقة، كل هذا يسير وفق ما تسميه إدارة بايدن بـ”إعلان القدس”.